موسيقى فلسطين... اللغة المتجدّدة | حوار إياد ستيتي

إياد ستيتي من برنامج «آيكونك»، تلفزيون فلسطين

 

أنحاز إلى الموسيقى الكلاسيكيّة الأصيلة الّتي تربّينا عليها.

الموسيقى الفلسطينيّة امتداد للموسيقى العربيّة الأصيلة.

في جنين ثمّة تجربة ثقافيّة وفنّيّة تستحقّ الكتابة عنها. 

الموسيقى العربيّة الأصيلة المصريّة هي اللغة الفصحى لكلّ لغات الشرق الموسيقيّة.

الموسيقى الحديثة لا تدوم، الموسيقى الّتي تدوم هي المبنيّة على قالب موسيقيّ واضح ومعروف.

 

 

تأسّست «جمعيّة الكمنجاتي» بمبادرة الموسيقيّ رمزي أبو رضوان، عازف الفيولا والبزق المعروف عالميًّا. عاش رمزي وترعرع في مخيّم الأمعري في رام الله، بعد أن هُجِّرَت عائلته خلال أحداث التطهير العرقيّ للفلسطينيّين، أو ما يعرف بـ ’النكبة‘ (1947-1949). أسّس أبو رضوان «جمعيّة الكمنجاتي» عام 2002 بهدف إتاحة تعليم الموسيقى للأطفال الفلسطينيّين، وتعزيز وعيهم وتقديرهم لثقافتهم وهويّتهم الفلسطينيّة. عقب تأسيس الجمعيّة في فرنسا، بدأ رمزي برفقة زملاء له بتنظيم أنشطة ثقافيّة لاجتذاب الدعم وجمع الآلات الموسيقيّة والموادّ التعليميّة. كما عملوا على رفع الوعي العامّ بضرورة دعم إيجاد مدارس لتعليم الموسيقى للأطفال الفلسطينيّين.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع المدير التنفيذيّ لـ «جمعيّة الكمنجاتي»، إياد ستيتي، نتحدّث معه عن الموسيقى بوصفها أداة تعبير عن النفس، وعن دور «الكمنجاتي» في تنمية حقل الموسيقى في فلسطين.

وُلِدَ ستيتي عام 1974، وقد حصل على شهادة البكالوريوس من «كلّيّة الفنون والتصميم» في تخصّص «موسيقى عربيّة» من «جامعة بير زيت». وهو عضو مؤسّس في «الكمنجاتي» منذ عام 2004، وعَمِلَ منذ العام 2007 وحتّى عام 2014 مدرّسًا للموسيقى على آلة العود ومنسّقًا لبرامج ونشاطات الشمال في الجمعيّة. كما ساهم في تأسيس العديد من الفرق الموسيقيّة في «الكمنجاتي» ومن بينها «الفرقة الوطنيّة للموسيقى العربيّة» و«فرقة جنين للموسيقى الشرقيّة» و«فرقة الكمنجاتي». له العديد من الألحان والأعمال الفنّيّة، كما شارك في عديد العروض الفنّيّة الموسيقيّة على المستويين الدوليّ والمحلّيّ، وقد شغل منصب المدير التنفيذيّ لـ «الكمنجاتي» منذ عام 2015 وحتّى الآن.

 

فُسْحَة: بصفتك مديرًا لـ «جمعيّة الكمنجاتي» في فلسطين، ما التحدّيات الّتي يواجهها حقل الثقافة والموسيقى تحديدًا في فلسطين؟

إياد: الموسيقى في فلسطين هي أداة من أدوات التعبير عن النفس، لا أفكّر فيها كأداة مقاومة بل أداة للتعبير عن أنفسنا ورفضنا لكلّ أشكال الظلم في العالم، من بينها الظلم الواقع على الشعب الفلسطينيّ المقتلع من أرضه والفاقد لحقّه في العيش على أرضه. دوري كموسيقيّ هو نشر هذه الثقافة بين أبناء شعبي، وهذا هو دور «الكمنجاتي»، ومن هذا المنطلق أعمل مديرًا لمؤسّسة موسيقيّة، لكي أعزّز دور الموسيقى ومكانتها بين أبناء مجتمعنا وفي الأطفال الّذين سيكبرون ليحملوا راية فلسطين بالمعنى الوطنيّ والثقافيّ. أعتقد أنّ الموسيقى قادرة على أن تحمل فلسطين إلى العالم، ومن يقول إنّ فلسطين ليست بحاجة إلى العالم فهو يكذب؛ فنحن بحاجة إلى التواصل، ولكن بلغته، واللغة السامية هي لغة الموسيقى والفنون، لا السياسة. لا أدّعي أنّني سياسيّ، لكنّني أعتقد أنّ طرقنا السياسيّة قد فشلت في التعبير عن القضيّة، فالعالم لا ينظر إلى القضيّة الفلسطينيّة بعين العدالة بل ضمن حسابات المصالح. ودورنا كموسيقيّين أن نُفْهِم العالم أنّنا نريد أن نعيش وأن نعيش في أرضنا، ودور الثقافة عمومًا أن تؤكّد على الحقّ في الوجود والعيش على الأرض وعلى حقّ التعبير عن النفس.

 

فُسْحَة: عند الحديث عن التحدّيات الّتي تواجه الموسيقى في الضفّة الغربيّة، يحضر التحدّي الاقتصاديّ وكذلك الاجتماعيّ. ثمّة عوائق اقتصاديّة لدى العديد من الطلّاب والأطفال الراغبين في تعلّم الموسيقى تمنعهم عن تعلّمها، وثمّة عوائق مكانيّة مثل العيش بعيدًا عن مراكز المدن. ثمّة إذن ظروف اجتماعيّة واقتصاديّة متفاوتة تشكّل عوائقًا حقيقيّة للراغبين في تعلّم الموسيقى أو لأولئك الّذين يتعلّمونها في أن يكملوا تعليمهم، فمثلًا الحصول على الأدوات الموسيقيّة المكلفة جدًّا قد يشكّل عائقًا كبيرًا بالنسبة لكثيرين. كيف تتعامل «الكمنجاتي» مع هذه التحدّيات؟

إياد: في ما يتعلّق بالعوائق المكانيّة، فـ «الكمنجاتي» تبحث عن الأطفال الموهوبين من خلال برامج الموسيقى في المدارس، فمثلًا لدينا برنامج التربية الموسيقيّة الّذي يعقد في المدارس ويهدف إلى اكتشاف المواهب الموسيقيّة لدى الأطفال وضمّهم إلى المركز. أمّا ما يتعلّق بالعوائق المادّيّة، فأطفال المخيّمات مثلًا لا يدفعون رسوم الدراسة، بل يحصلون على منح كاملة، في حين يدفع أطفال القرى مثل دير غسّانة ما نسبته 20% إلى 40% فقط. أيضًا ثمّة أطفال من رام الله لا يدفعون الرسوم. كثيرون لا يدفعون، في ما البعض يدفع ما يتراوح بين 20 إلى 50% من قيمتها، وأولئك القادرين على دفعها نطلب منهم قيمة تعليم أبنائهم وبناتهم سنويًّا، وهم قلّة من بين الغالبيّة الّتي تحصل على منح كاملة أو جزئيّة.

بالنسبة للأدوات فنحن نحرص على توفير آلات موسيقيّة لكلّ الأطفال، وهي آلات ذات جودة عالية جدًّا نحصل على معظمها من خلال تبرّعات أصدقائنا في الخارج وفي أوروبا تحديدًا، مثل الكمنجات والتشيلو وغيرها، ولذلك لا نواجه مشكلة في توفير الأدوات للطلبة الّذين يحتفظون ببعض الآلات لفترات تتراوح بين 10 – 8 سنوات، وهي المدّة اللازمة لتحصيل الطالب لشهادة متوسّطة من «الكمنجاتي» تمكّنه من أن يكون محترفًا. 

 

فُسْحَة: هل الموسيقى عند مقارنتها مع حاجات متجتمعيّة أخرى أقلّ أهمّيّة، أم هي الأخرى حاجة ضروريّة للبعض لا تقلّ أهمّيّة عن غيرها؟

إياد: قلت في البداية إنّ وجهة نظري هي أنّنا نتعامل مع الموسيقى بوصفها أداة تعبير عن الذات، ولذلك الموسيقى هي حاجة بالنسبة للمجتمع. أتّفق أنّ البعض ينظر إلى الموسيقى بوصفها رفاهيّة، لكنّنا نعتقد غير ذلك؛ لأنّ طريقة تعليمنا، وخاصّة للأطفال، تجعل منها حاجة ضروريّة. بالطبع بالنسبة لكثيرين هي ليست حاجة ملحّة، لكنّنا نحاول من خلال عروضنا ونشاطاتنا أن نحبّب الناس بالموسيقى، وأن نمكّنهم من الانسجام نفسيًّا مع هذا النوع من الفنون.

لكنّ الناس في فلسطين متقبّلة للموسيقى وتشجّع ممارساتها، وذلك شيء عرفته بالتجربة من خلال علاقتي بالمجتمع وبعائلتي الّتي دائمًا ما ميّزتي من بين إخوتي لممارستي الموسيقى. مجتمعنا طيّب وبسيط، وهنا أتكلّم عن غالبيّة المجتمع، بالطبع ثمّة البعض ممّن يختلفون مع الموسيقى وذلك حقّهم، لكن لكلّ منّا حرّيّة الاعتقاد والتفكير. لكنّ الغالبيّة تؤيّد تعليم الموسيقى للأطفال، ودائمًا ما شعرت بتقدير واحترام المجتمع لما نفعله. من ناحية نفسيّة، تعمل الموسيقى على تعزيز الثقة بالنفس لدى الأطفال والموسيقيّين، أنا أتحدّث معك بطلاقة اليوم لأنّ الموسيقى علّمتني تلك الطلاقة، وكيف أعبّر عن نفسي من خلال لغتي الموسيقيّة، فالموسيقى هي لغة جديدة أنصح جميع العائلات بأنّ يدفعوا أطفالهم لتعلّمها.

 

فُسْحَة: بإمكان تعلّم الموسيقى أيضًا أن يكون علاجيًّا، تحديدًا في منطقة تخضع للاستعمار، ويمكن أن تكون في ذلك السياق حيويّة وهامّة لعديد الأفراد. كيف ينعكس ذلك على برامج «الكمنجاتي» أو على تجربتك في إدارة «الكمنجاتي» في جنين الّتي امتدّت لسبع سنوات تقريبًا؟

إياد: جنين لا تشكّل حالة استثنائيّة إن أردنا الحديث عن الممارسات الاستعماريّة الصهيونيّة في فلسطين، ربّما كان ثمّة تركيز لهذه الممارسات بين الحين والآخر في جنين، لكنّها تعيش الظروف الاستعماريّة ذاتها الّتي تعيشها بقيّة المدن الفلسطينيّة. في البداية لم يكن ثمّة تقبّلًا للموسيقى في جنين عندما بدأنا عام 2007، البعض رفض نشاطاتنا، وقد أُحْرِقَ مقرّ الجمعيّة في بدايات عملنا هناك. لكنّ الرفض الأوّليّ يمكن وصفه بالطبيعيّ، خاصّة وأنّ ثمّة إجماع اليوم على الموسيقى في جنين وتشجيع مجتمعيّ كبير على ممارستها، واليوم بعض أفضل الموسيقيّين الفلسطينيّين هم من جنين.

كانت تجربتنا الأولى في جنين غنيّة جدًّا، وقد أثارت نقاشات مجتمعيّة عميقة وحوارات متواصلة بيننا وبين الناس. اليوم الجمعيّة تعمل بشكل جيّد، وثمّة كثيرون يتعلّمون الموسيقى ولدينا أوركسترا وفرق موسيقيّة وأساتذة يأتون إلى رام الله ليعلّموا الموسيقى. يمكن القول أنّ جنين اليوم مدينة تتقبّل الموسيقى وكافّة أشكال الفنون بشكل كبير، ربّما ليس مثل رام الله، لكن تحديدًا في الموسيقى الّتي تختلف عن بقيّة أشكال الفنون مثل الرقص والسينما وغيرها من الأشكال الّتي قد تثير خلافًا مجتمعيًّا، يظلّ ثمّة إجماع على الموسيقى. في جنين حالة ثقافيّة من المهمّ جدًّا الكتابة عنها، فثمّة مسرح، ورقص شعبيّ، ورقص معاصر وموسيقى، وأعتقد أنّ من الضروريّ الكتابة عن الحالة الثقافيّة في جنين بالتفصيل، وتحديدًا في حالتي الشخصيّة، كان لديّ تجربة عميقة وهامّة جدًّا من خلال الموسيقى «والكمنجاتي» في جنين.

 

فُسْحَة: ما عناصر هذه التجربة وسياقاتها؟

إياد: للتجربة علاقة مباشرة بكوني ابن مدينة جنين، وكنت قد تعرّفت إلى رمزي رضوان مؤسّس «الكمنجاتي» في فرنسا وأحببت وآمنت بمشروعه الّذي كان قد تأسّس عام 2002 في فرنسا. في ذلك الوقت ألححت على اقتطاع مبلغ بسيط من ميزانيّة «الكمنجاتي» الضئيلة أصلًا، لبدء المشروع في جنين، وكان الأمر بمثابة تحدٍّ، وقلت له إنّني لن أخذلك يا رمزي، وأيّ مبلغ ماليّ سيسخّر للاستثمار في الثقافة في جنين. بدأنا التجربة عام 2007، وكنت خائفًا من الفشل، من عدم قدرتي على استقطاب طلّاب، لكنّ رمزي كان داعمًا لي، لكن وفي عام 2009 أُحْرِقَ المركز من قبل أناس مجهولين. ربّما اعتبروا الموسيقى عملًا حرامًا أو شيئًا من ذلك، لا أعرف. إثر ذلك وجدت تشجيعًا ودعمًا كبيرًا من أهل جنين الّذين أصرّوا على أن نستمرّ في عملنا، وحتّى رمزي قال لي إنّ الغابة الّتي تحترق تزداد خصوبة، وتلقّينا دعمًا من جميع القوى الوطنيّة والسياسيّة والشعبيّة ومن العائلة والأصدقاء وعائلات الطلّاب لكيّ نستمرّ في هذه التجربة. وبالفعل تمكّنا من الاستمرار وتحقيق نجاح باهر، واليوم انتقلنا إلى مركز كبير بعد أن رمّمته «مؤسّسة رواق»، واستثمرنا الكثير من المال في جنين، في العروض المجّانيّة الّتي تكلّف على الأقلّ 5 آلاف دولار للعرض الواحد، واستثمرنا للناس وفيهم؛ فالناس لن تفهم معنى الموسيقى إن لم تشاهد عملًا ضخمًا أو أوركسترا يعزف فيها الأطفال. هذه التجربة تستحقّ التوثيق، وهي من التجارب الناجحة في تعليم الموسيقى على مستوى العالم.

 

فُسْحَة: ما أنواع الموسيقى الّتي تركّز «الكمنجاتي» على تعليمها وإنتاجها؟

إياد: «الكمنجاتي» مؤسّسة تعليميّة، أي أنّها تتبع منهجيّة واضحة في تعليم الموسيقى، بداية من الموسيقى الكلاسيكيّة والّتي تشكّل جزءًا أساسيًّا من تعليم الموسيقى، فنحن نعتمد منهج (ABRSM) وهو منهج إنجليزيّ عريق وفي الوقت نفسه يمتدّ عمره لقرون، ويشمل تعليم الموسيقى من العصور القديمة إلى النهضة إلى الباروك والكلاسيكيّة والرومانتيكيّة وموسيقى القرن العشرين، وهو منهج نعتمده مرجعيّة في التقييم والتعليم. ذلك إضافة إلى استخدامنا لمنهج «المعهد الوطنيّ للموسيقى»، ومؤخرًا أصدرنا كتابًا اسمه «منهاج آلة العود»، وثمّة كتاب «روائع من العالم العربيّ والشرق» الّذي كتبه الأستاذ خالد صدّوق، وقد اشتغلنا على إنتاج منهج وقطع موسيقيّة متدرّجة للطلاب ليستخدموها في كلّ الآلات الشرقيّة. بالعموم، يتمحور التعليم بالأساس حول تعليم الموسيقى العربيّة الأصيلة، وعندما أقول العربيّة الأصيلة أعني بذلك الموسيقى المصريّة؛ فاليوم لدى «الكمنجاتي» توجّهًا لتعليم الأطفال أصول الموسيقى سواءً العربيّة الكلاسيكيّة أو الغربيّة ومن ثمّ يتعيّن على الطلبة اختيار الطريقة الّتي تناسبهم. منهم من يتوجّه إلى الموسيقى الحديثة، ومنهم من يتوجّه إلى الكلاسيكيّة والعربيّة، الموسيقى عالم واسع ولدى الموسيقيّ حرّيّة صناعة الموسيقى الّتي تلائمه وتعجبه. صحيح أنّنا نعلّم الطلبة داخل قوالب، لكنّ القالب إطار يستطيع الإنسان الخروج منه وأن يفعل ما يشعر أنّه يعبّر عنه بطريقة أفضل. شخصيًّا أنحاز إلى تعليم الموسيقى الكلاسيكيّة الأصيلة الّتي تربّينا عليها، ومن ثمّ فليصنعوا الموسيقى الّتي تعجبهم.

 

فُسْحَة: هل تعتقد أنّ لدى الجيل الجديد من الموسيقيّين الفلسطينيّين ما يمكن اعتباره موسيقى خاصّة بهم، أم هو نسخ لتجارب موسيقيّة قديمة؟

إياد: الحالتان صحيحتان، لكن ثمّة ما يمكن وصفه بالموسيقى الفلسطينيّة الخاصّة بعيدًا عن الكلاسيكيّة أو العربيّة الأصيلة، في أعمال كثيرين ومن بينها أعمالي الموسيقيّة، تلاحظ دائمًا وجود نمط فلسطينيّ خاصّ تشعر به إن كنت متخصّصًا في الموسيقى. عدا عن ذلك، فموسيقتنا مستمدّة من الموسيقى العربيّة بوصفنا أصلًا امتدادًا للأمّة العربيّة، فمثلًا عندما تستمع لألحاني تشعر أنّها فلسطينيّة لكنّ امتداداتها تعود إلى الموسيقى العربيّة، وعلى أيّة حال، فكلّ أشكال المعرفة في العالم ومن بينها الفلسفة والعلوم هي معرفة تراكميّة تنقل عن بعضها البعض، والأمر ذاته ينطبق على الموسيقى. مَنْ كانوا في العصر الكلاسيكيّ أخذوا عن عصر الباروك الّذي نقل عن عصور سابقة عليه. إذن، فالموسيقى الفلسطينيّة هي امتداد للموسيقى العربيّة الأصيلة، وبالموسيقى العربيّة الأصيلة أعني المصريّة الّتي أعتقد أنّها، وبوصف الموسيقى لغةً، هي اللغة الفصحى لكلّ لغات الشرق الموسيقيّة.

تاريخيًّا كانت الموسيقى الفلسطينيّة منقسمة إلى قسمين، قسم هو امتداد للمدرسة الغربيّة مثل الموسيقار الفلسطينيّ سلفادور عرنيطة الّذي درس في إيطاليا، وكان ثمّة قسم آخر شكّل امتدادًا للموسيقى المصريّة مثل روحي الخمّاش ويحيى اللبابيدي. ويعود الظهور الأوّل لفكر موسيقيّ فلسطينيّ خاصّ إلى سبعينيّات وستّينيّات القرن الماضي، مع ظهور «فرقة العاشقين» و«فرقة الأرض» ومن ثمّ «فرقة صابرين»، ممّن غنّوا شعر درويش وأنتجوا موسيقى جميلة جدًّا ليست بعيدة عن الموسيقى العربيّة الشرقيّة الأصيلة، لكنّهم صبغوها بنكهة فلسطينيّة خاصّة. وقد استمررنا على هذا المنهاج، فعندما تستمع لكاميليا جبران من «فرقة صابرين»، وألحان سهيل خوري، عيسى بولص... إلخ، تجدهم جميعًا يشتركون باللون واللهجة الفلسطينيّة الّتي ليست بالبعيدة عن النكهة الموسيقيّة العربيّة.

أمّا اليوم فظهر جيل جديد يحبّ الموسيقى الحديثة، ورأيي أنّ الموسيقى الحديثة لا تدوم، الموسيقى الّتي تدوم هي المبنيّة على قالب موسيقيّ واضح ومعروف.

 

فُسْحَة: كيف تقرأ تجربتك الموسيقيّة حتّى اللحظة، وأين تموضعها من هذه النقاشات؟

إياد: لا أفصل احترافي الموسيقيّ عن حياتي الشخصيّة، فعندما استُشهِدَت الصحافيّة الفلسطينيّة شيرين أبو عاقلة فكّرت كيف يمكنني استيعاب هذه التجربة حسّيًّا وشعوريًّا داخل تجربتي الشخصيّة الموسيقيّة؛ أتحدّث عن الشعور بالفقد، فَقْدُ صحافيّة أعلت صوت فلسطين وكيف يمكن التعبير عن ذلك موسيقيًّا. تجربتي الشخصيّة كانت عبارة عن محطّات حياتيّة مختلفة، بداية من الاستماع المفرط لموسيقى غربيّة، ومن ثمّ الاستماع للكلاسيكيّات وصولًا إلى الموسيقى العربيّة وحتّى بدايات العشرينيّات الّتي بدأت أستمع فيها لمحمّد عبد الوهّاب وأمّ كلثوم. رأسي يعجّ دائمًا بمزيج من الألوان الموسيقيّة المختلفة، وهذه صورة دائمة التكرار في ذهني وتعيش معي وتخرج على هيئة مزيج موسيقيّ بين الحين والآخر. تجربتي الموسيقيّة لها علاقة مباشرة بتجربتي كمواطن فلسطينيّ يعيش الظروف الاستعماريّة الصعبة الّتي يعيشها بقيّة أبناء شعبي، فقد عشت طوال عمري في المنفى، وعدت إلى فلسطين وعشت «انتفاضة الأقصى» هنا، وعشت مآسي الناس وأفراحهم، سافرت حول العالم ورأيت أوروبّا من خلال الموسيقى.

هذا كلّه أنتج المزيج الموسيقيّ الحالم داخلي الّذي يسعى ليعبّر عن نفسه من خلال الموسيقى. مؤخّرًا أعيش تجربة الخوض في الموسيقى الأندلسيّة أو المقام الأندلسيّ الّذي يغنّي الشعر الصوفيّ. أنا منحاز قليلًا للغة العربيّة الفصحى، للشعر الموزون مثل شعر ابن الفارض وابن عربيّ، وصرت أحبّ هذا اللون من الموسيقى والأشعار العربيّة جدًّا. كما اشتغلت على مشاريع موسيقيّة لرياض السنباطي، ومشروع آخر لفيلمون وهبي قدّمته في فلسطين وبيروت، والمشروع الحاليّ مع زكي ناصيف، وأحبّ لو أعمل على مشروع يتعلّق بعبد الحليم حافظ، لكن حاليًّا أجد نفسي متعلّقًا أكثر بالموسيقى الأندلسيّة والصوفيّة.

 

فُسْحَة: ثمّة صعود متسارع لموسيقى الراب اليوم، إنتاجًا واستماعًا، كيف تفسّر هذا الصعود، وما موقفك الشخصيّ من هذا النوع من الموسيقى؟

إياد: ربّما يكون رأيي بالموسيقى الحديثة مزعجًا قليلًا، لكنّ الراب موسيقى موزونة وكلام موزون وثمّة إيقاع ولا مشكلة لديّ مع ذلك. البعض يتّفق معي في ما يتعلّق بالموسيقى الحديثة والبعض لا يقبل رأيي، وبالنسبة لي أتقبّل الجميع، لكن ثمّة معايير أؤمن بها خاصّة في ما يتعلّق بالقضايا المهنيّة. إذا تحدّثنا مثلًا عن موسيقى المهرجانات الّتي يستفيد البعض منها مادّيًّا مثل حمو بيكا وغيره، جيّد بالنسبة لهم، لكنّني لا أعتقد أنّ هذه موسيقى لكونها غير خاضعة لمعايير الموسيقى، لأنّها تقريبًا فوضى وكلام غير مفهوم، ولو حاولت قراءة كلمات الأغاني لما فهمت شيئًا منها. ليس ثمّة مضمون أو فكرة، ليس ثمّة شيء.

لقد تعلّمت أن تكون الموسيقى أداة تعبير عن النفس، لا أن تكون مجرّد تسلية، الموسيقى عندي هي في مقام عالٍ، وربّما تكون المشكلة عندي أنا. أحترم جميع أشكال الحياة، لكنّني لا أميل إلى سماع الموسيقى الإلكترونيّة الّتي لا تضيف شيئًا لي، بل على العكس ترهقني وتتعبني. وهذا رأيي الشخصيّ، لا أعتدي فيه على أحد، وأحترم جميع الموسيقيّين الّذين يعملون في الموسيقى الحديثة، لكنّني فقط لا أحبّذها ولا أحبّ صناعتها أو سماعها ولا أستطيع تقبّلها.

لتكون موسيقيًّا، ولتنتج موسيقى، يجب أن تتعلّم وتدرس الموسيقى، ومن غير المنطقيّ أن يأتي صحفيّ مثلًا فجأةً ويبدأ بصناعة الموسيقى عن طريق القرص الإلكترونيّ، هذا لا يعقل. أحيانًا أشعر أنّ لديّ رغبة في أن أكون صحفيًّا، خاصّة بعد استشهاد شيرين أبو عاقلة، لقد أحببت المهنة، لكنّني لا أستطيع فعل ذلك، لا علاقة لي بذلك فكيف يمكنني أن أكون صحفيًّا فجأةً؟ أستطيع أن أكون موسيقيًّا، أن أدرّس الموسيقى وأن أدير مؤسّسة موسيقيّة، أستطيع كتابة مقال أو بحث في الموسيقى، لكنّني لا أستطيع أن أكون صحفيًّا. وعلى ذلك يقاس؛ لا يمكن لمهندس أن يتعلّم الموسيقى الإلكترونيّة ومن ثمّ يدّعي أنهّ موسيقيّ، وهنا أتكلّم حصرًا على الموسيقى الحديثة الإلكترونيّة، لأنّها تُنْتَجُ من خلال الآلات الإلكترونيّة وليس ثمّة أدوات أو آلات موسيقيّة، وبرأيي أنّ الموسيقى تُنْتَجُ إمّا من الحنجرة أو من الآلة الموسيقيّة الوتريّة أو النفخيّة أو النحاسيّة أو الإيقاعيّة، تلك هي الموسيقى وليست تلك المنتجة من خلال قرص إلكترونيّ يصدر مؤثّرات صوتيّة. يمكن القول إنّها مؤثّرات صوتيّة، لكنّها ليست موسيقى.

 

فُسْحَة: أطرح هذا السؤال من باب المجادلة، لو فرضنا أنّنا نريد تقديم قراءة سوسيولوجيّة للأسباب الّتي تدفع إمّا إلى إنتاج الموسيقى الحديثة، الإلكترونيّة كما وصفتها، أو المهرجانات أو غيرها، وإلى الاستماع لهذا النوع من الموسيقى، فربّما يمكن القول إنّ ما يدفع الناس إلى الاستماع لهذا النوع من الموسيقى الصاخبة هو الرغبة في تسليم أجسادهم كلّيًّا لهذا الصخب والتحرّك بحرّيّة وبفوضويّة غير منضبطة ولا هي إيقاعيّة ولا هي تدعو إلى التواصل مع الذات بأيّ طريقة من الطرق؛ بل هي تُدْخِلُ النفس في حالة من الانفصال الواعي عمّا يجري من حولها وكذلك إدخال الوعي في حالة من السبات لبضع ساعات ومحاولة عدم الوعي لما يجري؛ فالوعي لما يجري من ظروف عمل شاقّة، من إيقاع حياة منضبطة رأسماليًّا حول العمل، سيستدعي الانتباه لحالة الاحتراق النفسيّ اليوميّة المتصاعدة والمحتقنة الّتي يعيشها إنسان القرن الواحد والعشرين. لا أحد يريد التواصل مع نفسه في عطلة نهاية الأسبوع، ولا أحد يريد تأمّل واقعه المادّيّ المثقل بالقروض والاحتراق النفسيّ اليوميّ؛ بل عادة ما يكون ثمّة تفضيلًا للانفصال والانطفاء. نحن نعيش في عصر الاحتراق النفسيّ، وهذه الموسيقى الصاخبة هي تعبير عن حاجة الأراوح المرهقة من الاتّصال اليوميّ ببعضها البعض إلى التوقّف عن التواصل والتوقّف عن الكلام والانغماس في تجربة انفصال تامّة عن محيطها والتحرّك بحرّيّة وفوضويّة علّها تتمكّن من إطلاق سمومها في هواء الحفلات الصاخبة المعبّق بدخان السجائر. وهذه مجرّد فرضيّة، وهي فرضيّة تضع الموسيقى الكلاسيكيّة في ورطة، في ورطة عدم قدرتها على الاستجابة، فالموسيقى الكلاسيكيّة دعوة للتأمّل والتواصل مع الذات، والذات لا تريد فعل ذلك في هذا العصر، تريد نقيض ذلك تمامًا، فهل توافق على هذه الفرضيّة؟

إياد: ربّما أوافق على جزء كبير ممّا طرحته، لكنّني أنصح الناس اللجوء إلى الطبيعة عندما تشعر أنّها متعبة وتحتاج أرواحها إلى الراحة، الطبيعة هي الأصل، واللجوء إليها أفضل بكثير من أشكال الصخب في العالم، لأنّ العالم مليء بالضجيج.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.